18 janvier 2010
1
18
/01
/janvier
/2010
00:07
في طربنا الأندلسي كثيرة هي الأصوات التي أدت وأبدعت في الأداء، لكن ذلك بقي منحصرا في إطار الموهبة وحدها بينما الأصوات المثقفة والجهود الموزيكولوجية المتخصصة لم تتح لها الفرصة الكافية لمقاربة هذا الطرب، إن لم نقل بأن السير في هذا الاتجاه كان شبه محظور.
وأول بادرة في اتجاه تحديث أداء هذا الطرب في المغرب تمت في ما أذكر على يد الموسيقار الراحل عبد الوهاب أكومي، ولعل المختارات التي تغنى بها خير دليل على ذلك ومن بينها / يانسيم الورد خبر لي الرشا/ لم يزدني الورد إلا عطشا/ التي أكاد أجزم أن أغلب من يتغنى بها لا يدري أنها للحلاج حيث من المرجح أن تكون لعا أغراض أرضية خارج سياق ما عرف عنه من عشق إلاهي. لكن مشروع هذا القنان للأسف اصطدم بعدة عراقيل. ومن ثم ضاع مثل صرخة في وادي.
لطالما ارتفعت أصوات للمطالبة بإنقاذ ذلك الكنز الحضاري الذي يؤرخ لمجد وشموخ الأندلس، خاصة بعد أن غيب الموت فرسانه الثلاثة الذين نذروا حياتهم لخدمة هذا الفن، البحاثة المحقق مولاي أحمد الوكيلي، حارس الأصالة عبد الكريم الرايس ومحمد العربي التمسماني حامل لواء التجديد.
لست هنا في وارد الدفاع عن طرب الآلة، يقينا مني بأن هناك جمعيات وهيئات مهتمة بالموضوع، لكن ألم يحن بعد لهذا التراث أن يستعيد وهجه ونضارته؟
إنها في الواقع مبادرة جميلة وسابقة محمودة في تاريخ الطرب الأندلسي الذي كان غناؤه مقصورا على الأصوات الرجالية، إلى أن تحقق لفرانسوزا أطلان ذلك الصوت النسائي المثقف "السوبرانو" أن تشدو وأن تتسيد في أداء أنتولوجبا رائعة من هذا التراث المهيب المنيف. وبذلك سجلت لنفسها إنجازا نوعيا متميزا، فاتسعت بذلك دائرة جمهورها ومساحة انتشارها، وبذات الوقت وفرت لهذا الطرب ارتقاء في الأداء مع الاحتفاظ بروح الأصالة وثوابتها.
اهتمامي بهذه المطربة يعود إلى صيف 2002، حيث استرعت انتباهي لأول مرة على فضائية (M2) المغربية بأدائها الرصين والقوي وبإطلالتها الجميلة خلال مشاركتها في مهرجان الموسيقى الروحية بفاس. فاحتفظت بالاسم وصاحبته ومن ثم سارعت إلى متابعة أخبار هذه الفنانة للتعرف على المزيد حول تجربتها، خاصة حين بدأت أشتغل على جمع وتحرير مادة هذا الكتاب.
صوت يطمح لإعادة بعث الحلم المفقود، أملا في صياغة جديدة لهذا الحلم، لتجاوز أخطاء الماضي، وعملا على تأسيس أندلس الغد، فردوس الوفاق والتسامح والتعايش. من أجل ذلك تركت فرانسواز مدينة مرسيليا كرد فعل على هجرة أبويها التي كانت هروبا من الهوية القاتلة، وانخرطت في رحلة الإياب نحو الجذور، لوصل ما انقطع من وشائج الصلة بتربة المنبت. "أنا مدينة كثيرا للمغرب"( ) تقول فرانسواز التي اختارت العيش بمراكش، المدينة المنفتحة على أكثر من أفق، بعدما نهلت من حياض فاس العالمة. إنها الرحلة التي أتاحت لشراعها أن يرسو في مرفإ الانطلاق، لترميم الذات وإعادة الحياة إلى رميم الذاكرة.
في رحلتها الفنية القصيرة أمدا، الغنية بالجهد وبالعطش إلى التحصيل، كانت فرانسواز قد أنجزت للتو تسجيلات خاصة بأغاني السيفاردبم الأندلسية على خلفية موسيقية مشغولة بمعزوفات وتنويعات على آلة العود، وهو المشروع الذي اشتغلت عليه بداية من 1995، حيث سرعان ما أعطت هذه الجهود ثمارها بحصولها عام 1998 على جائزة "Villa Medicis Hors les Murs".
ذات الوقت وبتنسيق مع أحد أشهر عازفي القيثارة في طرب الفلامنكو خوان كرمونا -Juan Carmona - وكذلك مع مجموعة جيل بينشوا- Gilles Binchois- انصب اهتمام فرانسواز على ثيمة الغناء في العصر الوسيط، وبالطبع فإن هذه الثيمة تحيل على التعاطي مع الموسيقى الأندلسية من بابها الواسع.
غير أن طموحها لم يقف بها عند هذا الحد، بأن تقتصر على الاهتمام الحصري بالشق العبري في تراث الموسيقى الأندلسية، بدل الاشتغال على المشروع في شموليته، فكان لابد من أن تعد العدة للنهوض بالمهمة وفق رؤيا متكاملة.
الحضور على واجهات متعددة ومخاطبة جمهور مختلف كان هاجسا رئيسيا بالنسبة لها. فظهور هذه المطربة إلى الجمهور الواسع في سهرات عمومية حية، سواء في المغرب وخارجه، في مهرجانات أو تظاهرات فنية وثقافية سرعان ما أكسبها شهرة عالمية، تمتد من الأندلس عبر أوروبا، ومن بلدان شمال أفريقيا إلى الولايات المتحدة ثم إلى اليابان.
لذلك فإن ما حققته فرانسواز أطلان في فترة وجيزة لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة عمل ممنهج ودؤوب، حرصت فيه على السير وفق خطين متوازيين، خط يتمثل في الانكباب على الجانب الإبداعي الصرف من المادة التي تشتغل عليها ، أما الجانب الثاني وهو دينامية البحث في أركيولوجيا هذه الموسيقى العالمة المتمثلة في الطرب الأندلسي بشكل عام وفي تطبيقاته المغربية على وجه التحديد، ومن ثم التوفيق بين الجانبين بهدف إعادة صياغة الذاكرة المشتركة التي انطفأت جذوتها وخبا نورها في عتمة الوحشة والاغتراب.
فمن البحث المعرفي الدؤوب في تضاريس موسيقى موغلة في القدم، حددت لها العصر الوسيط حيزا زمنيا، والمنقطة المتوسطية إطارا جغرافيا. ومن معانقتها للتراث الأندلسي تحقيقا وإنشادا وأداء، أيضا من الغوص في الذاكرة المنسية لأغاني الطفولة على ألسنة الجدات كمدخل لبعث أغاني السيفارديم بلهجة اللادينو( ). من هذه المنطلقات مجتمعة ينهض مشروع أندلسيات فرانسواز أطلان الذي يقوم على مساحة طموح لا تحده حواجز الزمان والمكان، لأنه يمتد عمقا في صلب تراث حضاري غني ومتعدد، بحاجة دائمة إلى إعادة بعث واكتشاف، وبالتالي فهو مشروع يتطلع إلى تجاوز تخوم الإقليمية بهدف كسر الحاجز النفسي الذي مصدره "فوبيا" الآخر، سعيا وراء مد جسور التواصل بين الثقافات.
كانت بوصلة البحث والتقصي قد قادت فرنسواز أطلان إلى كل من الأستاذ أحمد بيرو بوصفه أكبر وأقدم مرجع في مادة الطرب الغرناطي بالمغرب، ثم إلى الباحث المتخصص في التراث الموسيقي الأندلسي وتحديدا إسهام الطائفة اليهودية في هذا التراث، الأستاذ محمد الحداوي. من هنا كان طبيعيا في هذا السياق أن تفضي بها الطريق إلى سكة الأستاذ محمد بريول( ) مايسترو جوقة فاس للطرب الأندلسي، ووريث المرحوم عبد الكريم الرايس، وهو اللقاء الذي أثمر تنسيقا استمر لسنوات ثم ما لبث أن تمخض عن خروج هذه المطربة إلى فضاء الاتصال والتواصل من خلال المشاركة النوعية والمتميزة في حفلات مهرجان فاس للموسيقى الروحية، الذي ما فتئ يحظى باهتمام دولي متزايد وتتسابق إلى تغطيته العديد من المحطات الفضائية، ثم النجاح الذي حققته حفلتها بمعية جوقة فاس برئاسة الأستاذ محمد بريول في مدينة نيويورك، وهو ما مهد لإنجاز آخر لا يقل أهمية وتمثل في تسجيل منتخبات من طرب الآلة على أقراص مدمجة، في إطار مشروع أندلسيات.
العلاقة بين فرانسواز أطلان ورموز الطرب الأندلسي الذين سبق ذكرهم ولاسيما تعاونها مع الأستاذ محمد بريول، الذي أنفق ما لا يقل عن عشر سنوات في تدوين كامل نوبات طرب الآلة الأندلسية المغربية الإحدى عشر، هذه العلاقة هي في واقع الأمر إحياء لتقليد قديم ومتجذر في أوساط المهتمين بالموسيقى الأندلسية وتعيد إلى الأذهان الروابط بين موسيقيين مسلمين ويهود منذ وصول زرياب إلى الأندلس وحتى الوقت الراهن، كما تحيلنا على نماذج من هذا التعاون الذي تحدثت عنه مصادر وكتابات أكاديمية يهودية بنزاهة وموضوعية كبيرين، كما لم تفتني الإشارة إلى بعض أوجه هذا التعاون حسب السياق في العديد من موضوعات هذا الكتاب.
وهكذا يتواصل مشروع أندلسيات فرانسواز أطلان في بعديه الأفقي والعمودي، إنجازا و تأصيلا مع الأخذ بناصية الحداثة، وهو ما يتمثل في أجندة الحفلات التي تقيمها في العديد من دول العالم، بموازاة مع المشاركة في ملتقيات تهتم بالتراث الموسيقي المتوسطي كجزء من التراث الإنساني.
في حفلها الساهر بمدريد في خريف 2003 بمشاركة جوقة مدينة وجدة للطرب الغرناطي مع المطربة المغربية زبيدة الإدريسي، حملت فرانسواز إلى الإسبانيين فنا به عبق من روح الأرض، لأنه نشأ في تربتهم، وبلغ ذراه المشرقة ما بين قرطبة واشبيلية وغرناطة، أيام كانت الأندلس واحة للتعايش السمح بين الديانات الثلاث، فنا يمثل الوجه المضيء من المشترك الحضاري بينهم وبين الضفة الجنوبية. وبالمناسبة أود هنا أن أورد تصريحا أدلى به لوكالة الأنباء المغربية في أعقاب هذا الحفل السيد سيرج بيرديغو رئيس مجلس الطوائف اليهودية بالمغرب جاء فيه( ). "أن السهرة حققت نجاحا باهرا وخلفت انطباعا متميزا يؤكد طبيعة المغرب الذي يكتنفه الانفتاح والتسامح، كما أشار إلى أن الأغاني التي أدتها المطربتان من التراث الأندلسي سواء بالعربية أو العبرية، تجسد في حد ذاتها إيقاعا للسلم والتسامح وتقبل الآخر، والتعايش بين اليهود
والمسلمين".
في خريف نفس السنة وتكريسا للمسعى الذي رسمته لمسارها الفني، ولتعزيز الجسور التي تربط بين التراث المشترك، عُهد إلى فرانسواز أطلان بمعية الإسباني "خوسي كارلوس كاربوني" بمهمة الإدارة الفنية ل "كورال الثقافات الثلاث" بوصفه أحد فروع "مؤسسة الثقافات الثلاث" المؤسسة التي يقول عنها السيد "أندري أزولاي" مستشار العاهل المغربي محمد السادس وعضو مجلسها الإداري"( ) أن إنشاء الكورال بعد سبع سنوات من عمل المؤسسة التي جاءت بمبادرة مغربية، يدخل في سعيها إلى خلق فكر تقاربي بين الثقافات والديانات المختلفة. وأضاف "للأسف نحن في محيط أكثر تراجيدية، لكنه محيط لا يخلو من بوادر أمل في التوصل إلى سلام، ومضى قائلا إن الكورال الجديد هو "كورال الأمل والشباب والتكتل والانفتاح".
وبهذه المهمة تكون فرانسواز أطلان قد استكملت أدوات العمل المؤسسي لخدمة هذا التراث الإنساني النبيل في أفق تحقيق غاية أنبل وهي تسخير الإبداع الفني من أجل التفاهم والتكامل بين الشعوب والحضارات.
كتاب "اليهود في الغناء المغاربي والعربي"
محمد الصقلي